تفاصيل الساعات الأخيرة قبل هروب بن علي



الشروق تنشر تفاصيل الساعات الأخيرة لبن علي في قصر قرطاج وليلة فراره إلى السعودية مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للثورة التونسية

كانت الغيوم قد لبّدت سماء تونس في تلك الأيام، وكأنها تتضامن مع عشرات المتظاهرين في الشوارع، أو كأنها تنقل دخان الحرائق في قفصة وسيدي بوزيد نحو تونس العاصمة، وتحديدا بمحيط وزارة الداخلية، هذه التي كان التونسيون لا يقتربون منها، إلا وترتجف قلوبهم فزعا من المبنى* ‬المرتبط* ‬بالقهر* ‬والتعذيب* ‬والترهيب؟*!!‬

داخل مقر الوزارة، كان يجلس أحمد فريعة، الأكاديمي الذي استنجد به بن علي في اليومين الأخيرين قبل هروبه ، في التحقيقات التي تلت السقوط، قال آخر وزير داخلية في عهد بن علي:"لم أتوّقع أنني سأكون وزيرا في تلك الظروف الصعبة، ولم أتوقع أنني لو أصبحت وزيرا، سأكون في الداخلية، فعلاقتي بالأمن محدودة، لكنني عندما تلقيت مكالمة هاتفية من الرئيس مساء 12 يناير، أحسست أنني لا أمتلك ردا على تعيينه لي، غير ترديد تلك الجملة التي يحفظها القاموس الرسمي العربي، وهي.. موافق يا سيادة الرئيس، واعتبرني من الآن جنديا من جنود تونس"!!

تتوالى التقارير في السقوط على مكتب فريعة، بشأن ما يحدث خارج الوزارة، آخرها يتحدث عن تحرك حوالي 70 ألف متظاهر من أجل محاصرة مبنى الداخلية، في الوقت الذي يقول فيه الوزير لمستشاريه، بعدما يضع سماعة هاتفه قلقا:"فلتأتوني برموز المعارضة، أريد نجيب الشابي ومعه أيضا* ‬رئيس* ‬رابطة* ‬حقوق* ‬الإنسان،* ‬وممثلين* ‬عن* ‬أحزاب* ‬أخرى*...‬سأرى* ‬كيف* ‬يمكننا* ‬التنازل* ‬لاسترضاء* ‬أنصارهم* ‬في* ‬الشارع* ‬من* ‬أجل* ‬عودة* ‬الاستقرار* ‬والهدوء*"‬؟*!!‬

كان* ‬الشارع* ‬يلتهب،* ‬ويردد* ‬بصوت* ‬واحد*:‬*"‬خبز* ‬وما،* ‬بن* ‬علي* ‬لا*"‬* ‬وجماعة* ‬أخرى،* ‬تتقدمها* ‬نساء* ‬محجبات* ‬ومتبرجات* ‬يرددن*: ‬*"‬بن* ‬علي*...‬ارحل،*... ‬الشعب* ‬يريد* ‬إسقاط* ‬النظام*"‬*!!‬

بعدها، بقليل، يأتي الفريق الأول رشيد عمار لمبنى الداخلية من أجل التنسيق مع الوزارة لاسترجاع الأمن...يستقبله وزير الداخلية، ويطلب منه مرافقة عددا من مستشاريه نحو غرفة العمليات، من أجل الإشراف على الخطة التي كانت تقضي بإعادة الأمن والاستقرار حالا إلى تونس..في* ‬ذلك* ‬الوقت،* ‬يستقبل* ‬وزير* ‬الداخلية* ‬مكالمة* ‬جديدة،* ‬ينهيها* ‬بغضب* ‬شديد،* ‬وهو* ‬يقول*:‬*"‬رصاص* ‬مجددا،* ‬وأين* ‬في* ‬قفصة،* ‬ألم* ‬أقل* ‬في* ‬تعليماتي* ‬أن* ‬تتفادوا* ‬قتل* ‬المتظاهرين*"‬؟*!!‬

حالة بن علي

بعيدا عن مبنى وزارة الداخلية، المعرّض بعد دقائق للحصار، وتحديدا في قصر قرطاج، يروي محسن رحيم، مدير التشريفات الرئاسية الرواية الخطيرة التالية بخصوص بن علي..."كان الرئيس مرتبكا، مهموما، يخرج من مكتبه مهرولا، ليتحدث مع مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي، ثم يعود* ‬مسرعا* ‬إلى* ‬مكتبه*..‬أعترف* ‬أنني* ‬لم* ‬أره* ‬على* ‬تلك* ‬الحالة،* ‬منذ* ‬عملت* ‬في* ‬قصره* ‬الرئاسي*"‬*.

المشهد ذاته ينقله، حسن الورتاني، حاجب الرئيس طيلة سنوات حكمه.."بن علي كان لا يتوقف عن استقبال وإجراء المكالمات الهاتفية، مستفسرا عن الأوضاع من طرف رجال نظامه، وأحيانا لا يتوقف إلا ليستقبل بعض الوافدين عليه من بناته وأصهاره".

كانت الساعة تشير إلى تمام العاشرة صباح يوم الهروب، عندما جاءت سيرين وزوجها مروان المبروك، برفقة شقيقتها غزوة وزوجها سليم زروق، دخلوا جميعا مكتب الرئيس، احتضن بن علي ابنتيه بقوة، ولكنه لم يُجب عن أي استفسار طرحتاه عليه، واكتفى بالإشارة لصهريه بالبقاء إلى جانبهما، حتى يكمل بقية اتصالاته* ‬الهاتفية* ‬العاجلة*.

تروي سيرين المشهد فتقول في التحقيقات، وصلنا إلى قصر قرطاج عند العاشرة صباحا، كان والدي في مكتبه لا يتوقف عن الحديث عبر الهاتف، قلقا، مهموما، ومرتبكا، رفضنا إزعاجه، وقررت برفقة زوجي وشقيقتي غزوة، وزوجها، التوجه نحو القصر الآخر، سيدي ظريف، من أجل تناول الغذاء.

تضيف" وجدنا هناك ليلى الطرابلسي وشقيقها بلحسن، كانت المرة الثانية التي أزور فيها قصر سيدي ظريف في حياتي، ذلك أنني لم أكن على اتفاق مع زوجة أبي الثانية ليلى، وقد قلت له مرارا وتكرارا بأنها ستفسد حكمه وعلاقته بشعبه، كما أنني لم أتوقف يوما عن نصحه بتطليقها، وليلى* ‬كانت* ‬تعلم* ‬ذلك* ‬جيدا،* ‬لذلك* ‬كانت* ‬تكرهني؟*!!‬

خلال ساعة الفطور على مائدة الرئاسة، لم نتكلم أبدا، اكتفينا بتبادل النظرات، أنا وغزوة من جهة، وليلى رفقة شقيقها بلحسن من جهة ثانية..بعدها، عدنا إلى قصر قرطاج، بحثا عن فرصة للحديث مع والدي، لكننا وجدناه على حالته، قلقا، ولا يتوقف عن الحديث في الهاتف؟!!

اتصالات لا تتوقف

بمن كان يتصل بن علي في تلك اللحظات، أو الساعات الأخيرة، زيادة طبعا على رموز نظامه ورجال سلطته؟ هل كان يتحدث إلى أصدقائه في فرنسا، وأوروبا، أم مع زملائه في نادي الحكام العرب، بحثا عن ملجأ أو مساعدة؟!!

يجيب لحسن الورتاني، فيقول:"لا أحد يعرف بمن كان يتصل الرئيس، فهو كان يغلق باب مكتبه على نفسه، ولم يخرج سوى مرتين، الأولى عند العاشرة صباحا لتحية ابنتيه وصهريه، والثانية عندما جاءه علي السرياطي مهرولا، فخرج معه إلى رواق القصر، وتجادلا هناك، ثم عاد بن علي لإكمال* ‬اتصالاته*"‬؟*!!‬

بعدها، بلحظات، طلب بن علي من محسن رحيم، مدير تشريفاته، أن يحضر طائرة رئاسية ستنقل بنات الرئيس وابنه الوحيد، برفقة زوجته، نحو السعودية..في تلك اللحظات التي كان يجري فيها مدير التشريفات اتصالاته بهيأة المطار، استقبل الرئيس، ابنته حليمة، احتضنها بقوة، ولم يضيّع وقتا طويلا قبل أن يخبرها بقراره..."صحّا بنتي، حضّري أغراضك حالا، ستنتقلين رفقة شقيقاتك نحو السعودية، لتغيير الجو وأداء العمرة"..سألت حليمة:"وأنت يا أبي، ألن تأتي معنا"..."لا، الوضع خطير ولا يمكنني التخلي عن البلاد في مثل هذه الظروف"؟!!

يترك* ‬بن* ‬علي* ‬ابنته* ‬تتخبط* ‬في* ‬حيرتها* ‬وقلقها،* ‬ويعود* ‬إلى* ‬مكتبه* ‬مسرعا،* ‬بعدما* ‬تلقى* ‬معلومة* ‬من* ‬الجنرال* ‬علي* ‬السرياطي،* ‬ظهر* ‬أنها* ‬خطيرة* ‬جدا؟*!!‬

حكاية الطائرة والملثمين

يتحدث رضا قريرة، وزير الدفاع، فيقول:"اتصل بي الرئيس غاضبا، قلقا، وبصوته المبحوح نوعا ما، سألني عن طائرة مروحية تحلق فوق قصره الرئاسي في قرطاج، وأن داخلها ملثمون جاؤوا لقتله..لقد كان خائفا"؟!!

يضيف قريرة، طلبت من بن علي منحي بعض الوقت للتأكد من الخبر، وفعلا استفسرت، القيادات العسكرية في السلاح الجوي، فأكدوا لي جميعا أنهم لم يبعثوا أي طائرة عسكرية..عدت للاتصال به، لكنه لم يصدقني وقال لي، غاضبا، "تعال وشاهد الهيلكوبتر بنفسك، إنها هنا، تحوم فوق القصر*"‬؟*!!‬

في البداية، اعتقد رضا قريرة، أن القصة اخترعها مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي، من أجل تصوير الأمر على أنه مكيدة مدبرة، أو محاولة اغتيال تمهد لانقلاب عسكري، لكن جميع العاملين بالأمن الرئاسي أكدوا فيما بعد، وخلال التحقيقات التي تلت سقوط النظام، أن طائرة مروحية* ‬حلقت* ‬فعلا* ‬على* ‬مسافة* ‬قريبة* ‬من* ‬القصر* ‬الرئاسي،* ‬وأنه* ‬كان* ‬فيها* ‬ملثمون؟*!!‬

الجنرال رشيد عمار، كان يتابع الأوضاع الساخنة، ويقرأ التقارير المتتالية من مكتبه بوزارة الدفاع، قبل أن يتوجه نحو الداخلية..في الطريق، تلقى اتصالا من علي السرياطي، يستفسره عن الوضع في شارع بورڤيبة، قبل أن ينقل له أوامر الرئيس بتعزيز تواجد الجيش هناك...:"كان السرياطي، ومعه بن علي، خائفين من تقدم جموع المتظاهرين نحو قصر قرطاج" يقول رشيد عمار خلال التحقيقات.

و يضيف:"طمأنته بأن الجيش متواجد في شارع بورڤيبة، لكنني رفضت طلبه الثاني حين قال لي إن الرئيس يأمرك بحماية ممتلكات عائلة الطرابلسي التي تتعرض حاليا للحرق* ‬والنهب* ‬والتخريب*...‬حينها* ‬قلت* ‬له* ‬أن* ‬مهمة* ‬الجيش* ‬تتمثل* ‬في* ‬حماية* ‬الممتلكات* ‬العامة* ‬وليس* ‬الخاصة*"‬،* ‬كان* ‬واضحا* ‬حينها* ‬أن* ‬الجنرال* ‬قرر* ‬التمرد* ‬على* ‬أوامر* ‬بن* ‬علي،* ‬أو* ‬بالأحرى،* ‬على* ‬أوامر* ‬ليلى* ‬الطرابلسي*..

لم يتوقف السرياطي عن إبداء قلقه عبر الهاتف، كانت مكالمة عاصفة، يقال بأنها شكلت تصورا لدى الجنرال رشيد عمار، بأنه لابد من الانحياز بعدها للثورة، ويتخلص من بن علي، أو بالأحرى من الجنرال السرياطي الذي كان يزعجه منذ كان في المخابرات...سكت للحظات، ثم جاءه صوت السرياطي مجددا:"يا جنرال، تتبع خبر عودة راشد الغنوشي لتونس، لدينا معلومات أنه سيصل المطار الدولي قريبا، ونحن لا نمتلك سيطرة على المكان، أرجو التحرك، تصرفوا مع الغنوشي وأحكموا سيطرتكم على المطار...الرئيس قلق جدا"

في* ‬الجزء* ‬الثاني
تفاصيل* ‬الخطاب* ‬الأخير*..‬خدعة* ‬السرياطي،* ‬وليلة* ‬الهروب* ‬نحو* ‬السعودية* ‬